Search Icon

موازنة 2026 لـ«الرداءة المستدامة»

منذ ساعتين

من الصحف

موازنة 2026 لـ«الرداءة المستدامة»

الاحداث- كتب محمد وهلة في صحيفة الاخبار تقول:"في مشروع موازنة 2026 المرفوع إلى مجلس الوزراء، بَنَت وزارة المال أرقامها على أساس سياسة «التعافي المستدام». تقوم هذه السياسة على مواصلة التقشّف القاسي، والاعتماد المفرط على الاقتراض من الخارج لتمويل الاستثمار والتنمية.

أيضاً رسمت تقديراتها على أساس نموّ حقيقي بمعدّل 3.5% مقارنة مع نموّ حقيقي مقدّر في السنة الجارية بمعدل 2.5%، وعلى أساس نفقات استثمارية توازي 11% من مجموع النفقات تصبّ بغالبيتها في عمليات الصيانة والتشغيل. هذه السياسة، لا تنفصل عن إحجام السلطة عن إجراء أي تعديل جدّي في بنية النظام الضريبي، ولا ينفصل عمّا كانت الحكومات المتعاقبة تقوم به لجهة التمسّك بالثبات النقدي... هي موازنة «الرداءة المستدامة».

لن تشكّل موازنة 2026 أكثر من 16.4% من الناتج المحلّي الإجمالي المقدّر في أحسن الأحوال بنحو 36.14 مليار دولار، مقارنة مع 16.97% في 2025، ومع 13.75% في 2024. وتمثّل النفقات التشغيلية والجارية في هذه الموازنة النسبة الأكبر بنحو 88.9%، بينما ستذهب 11.1% إلى النفقات الاستثمارية.

لكنها تركّز أكثر على الفوائض المالية، إذ تشير الفذلكة التي أعدّتها وزارة المال، إلى أنّ الهدف تحقيق فائض أوّلي وفائض إجمالي في نهاية السنة المقبلة كما حصل في السنتين السابقتين. وسيبلغ الفائض الأوّلي 31667 مليار ليرة (353.8 مليون دولار) في نهاية 2026 مقارنة مع فائض مقدّر في نهاية 2025 بنحو 46608 مليار ليرة (520.7 مليون دولار)، ومع فائض أوّلي في 2024 بنحو 38327 مليار ليرة (428.2 مليون دولار).

تثير هذه الأرقام السؤال الآتي: هل يمكن تحقيق نموّ من دون إنفاق استثماري بالاعتماد المفرط على النفقات التشغيلية والجارية؟ يصعب تحقيق النموّ بمستويات متدنّية من النفقات الاستثمارية تبلغ 627 مليون دولار، ووزارة المال تعترف في الفذلكة المرفوعة إلى مجلس الوزراء بأنها «نفقات استثمارية محدودة»، لكنها تعوّل على «القروض» وتحديداً «التمويل الخارجي بصورة رئيسية» التي يتركّز في أربعة قروض أساسية حصل عليها لبنان في السنة الجارية من البنك الدولي: قرض بقيمة 250 مليون دولار لإعادة الإعمار مضافاً إليها 7 ملايين دولار تمويل فرنسي، وقرض بقيمة 200 مليون دولار للتحوّل الزراعي، وقرض بقيمة 250 مليون دولار للطاقة المتجدّدة، وقرض لقطاع المياه بقيمة 257.8 مليون دولار.

هكذا تصبح الإجابة على السؤال مرتبطة بمدى كفاية هذه القروض لتحقيق النموّ، وبنوعية النموّ الممكن تحقيقه، وبقدرة لبنان على احتمال الدَّين. فالواقع، أنّ النموّ في لبنان كان يعتمد في مدّة ما قبل الانهيار على التدفّقات الخارجية، إنما كانت هذه التدفّقات تأتي عبر قناة أساسية هي المصارف، أي أنّ الدَّين كان دَيناً خاصاً يتمّ تحويله إلى دَين عام عبر طريقين: اقتراض مباشر للخزينة من المصارف التي تستقطب ودائع الزبائن، اقتراض غير مباشر للخزينة من مصرف لبنان الذي يقترض بدوره من المصارف التي تستقطب ودائع الزبائن.

مقابل نفقات استثمارية بـ627 مليون دولار، اقترض لبنان لتمويل استثماري 957.8 مليون دولار
من البنك الدولي
وهذه الآليّة كانت تعمل تحت شعار تثبيت سعر الصرف. أمّا الآن، فلا يزال الشعار المتعلّق بالثبات النقدي قائماً، لكنّ الاستقطاب المالي من الخارج اختلف، سواء في مصدر التدفّقات التي استبدلت الودائع بالقروض، وبحجم الاستقطاب الذي كان كبيراً نظراً إلى حجم الحاجات وقدرة القنوات الاستيعابية، وذلك مقارنة مع الواقع الحالي الذي تبدو فيه القروض محكومة بواقع سياسي خارجي وقنوات استقطاب محكومة بضوابط خارجية أيضاً. وبهذا المعنى، فإنّ الاعتماد المفرط على الخارج صار أكبر مع كمّية أموال متدفّقة أقلّ بكثير.

وهذه الرداءة التي تحاول الحكومة «بيعها» للعموم عبر توصيفها بأنها «التعافي المستدام». فالانخراط مع الخارج بهذه الطريقة في ظلّ غياب التدفّقات التقليدية، يفاقم مخاطر الاعتماد على الأوضاع الجيوسياسية. وهذا الأمر لا يتمّ بطريقة انتقائية، بل يشمل مجموعة من المؤشرات التي يفترض بلبنان الالتزام بها مثل مؤشّر كتلة الرواتب والأجور للقطاع العام التي لا يفترض أن تتجاوز 9% من الناتج المحلّي الإجمالي، بحسب ما أبلغ وزير المال ياسين جابر لمجلس الوزراء، وذلك «وفقاً لتوصيات صندوق النقد الدولي». التوصيات أصبحت أوامر.

وفي النتيجة سجّلت الخزينة، وفق توقّعات جابر، فائضاً إجمالياً بقيمة تصل إلى 546 مليون دولار في عامي 2024 و2025، وسيضاف إليها مبلغ 63 مليون دولار في السنة المقبلة.

لكن ما لم ينكره وزير المال أمام أربعة وزراء ناقشوه في مسألة الإيرادات، أنه لدى الخزينة أكثر من 2.6 مليار دولار متراكمة في حساباتها لدى مصرف لبنان، لكنه برّر الأمر في الملف المرفوع إلى مجلس الوزراء، بأنّ الخزينة عليها التزامات كبيرة تفرض عليها مراكمة الأموال من بينها: إعادة جدولة مبلغ 1 مليار دولار لصندوق النقد الدولي هو عبارة عن حصّة لبنان ممّا يُعرف بحقوق السحب الخاصة التي تكلّف الخزينة سنوياً 40 مليون دولار.

بالإضافة إلى مبلغ 1 مليار دولار لتسديد ثمن الفيول العراقي، ومبالغ غير محدودة لإعادة جدولة محفظة سندات اليوروبوندز البالغة 41 مليار دولار، ومبالغ غير محدّدة أيضاً لإعادة رسملة مصرف لبنان.

بهذا التقشّف يبرّر جابر للحكومة أنّ لبنان يمرّ في مرحلة ظرفية لا يمكن فيها تحقيق نموّ إلا على حساب الأجيال المقبلة، ما يوجب تحمّل الآلام الظرفية بانتظار المساعدات الآتية. وهذه الحجّة هي نفسها التي يروّج لها عند السؤال عن عدم تضمين الموازنة أي مبالغ تتعلّق بإعادة الإعمار، إذ أنّ الأمر صار يرتبط إلى حدّ الحصرية بالمساعدات والقروض الخارجية، سواء قروض البنك الدولي أو المساعدات التي يفترض أن تأتي لاحقاً.


وهذه السياسة لـ«التعافي» لا تنفصل في شقّ النفقات، عن شقّ الإيرادات، إذ اقتصر الأمر على توسيع القواعد الضريبية الحالية من دون أي إعادة نظر جدّية في بنية الضرائب في لبنان والأهداف المتوخّاة منها. لذا، لم تطرح أي ضرائب جديدة نوعية تخالف ما اعتمد سابقاً، أي أن تصيب الثروة أو الأرباح الرأسمالية أو سواها، بل اكتفت الموازنة هذه المرّة، كما في المرات السابقة، بأن تكون الضرائب فيها محصورة بالضرائب غير المباشرة وبتوسيع الشطور وبعض التوسيعات الأخرى التي تصيب قطاعات إنتاجية أو متّصلة بقطاعات إنتاجية.

عملياً، ما الذي اختلف بين ما قبل الانهيار وما بعده؟ من قراءة أرقام الموازنة والسياسات المالية المتّبعة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الثبات النقدي لا يزال العامل الأكثر هيمنة على تفكير السلطة في لبنان.

فالحاجة إلى التثبيت النقدي هي «الرشوة» التي يفترض تقديمها بدلاً من «الإصلاح» لأنها تمنح المستهلك قدرة وهمية على الاستهلاك بالدَّين الذي أصبح مموّلاً خارجياً. والإصلاح هنا ليس بالمعنى الذي يفرضه صندوق النقد الدولي المتعلّق بمؤشرات رقمية محدّدة، بل كما يشير إليه الوزير السابق شربل نحاس، عن ضرورة الانتقال نحو نموذج جديد.

فالوعود بأنّ ما كان سيعود كما كان، هي وهم مقابل الحاجة إلى تغيير بنيوي على مستويات السياسة والاقتصاد والمجتمع. ففي ظلّ انحسار التدفّقات الخارجية واقتصارها على مصادر خارجية سياسية، وانهيار تام في قنوات التوزيع الداخلية (الخزينة، المصارف...)، تدنّت فاعلية هذه الإدارة المركزية ولم تعُد قادرة على إدارة التدفّقات الخارجية والتوزيع الداخلي، وهذه الموازنات وآخرها مشروع 2026 يستبدل الإدارة المركزية بأخرى خارجية تدير النموذج نفسه بالأهداف نفسها، وإنما برداءة يتمّ تأطيرها لتصبح مستدامة.