الاحداث- كتب المحلل السياسي
منذ تسلمه رئاسة الحكومة اللبنانية، فرض القاضي والدبلوماسي السابق نواف سلام نفسه كرجل موقف لا يساوم، ورجل دولة يملك الجرأة في زمن المراوغات. لا يخفي سلام قناعته الراسخة بأن لا قيامة للبنان إلا بدولة واحدة، وسلطة واحدة، وسلاح واحد. موقفه هذا لم يكن جديداً، بل امتداداً لمسيرة طويلة من التمسك بالدستور والشرعية والمواثيق الدولية، لكنه بات أكثر وضوحاً وحِدّة منذ دخوله إلى السراي الحكومي، حيث المواجهة لم تعد نظرية، بل عملية ومباشرة.
في أكثر من مناسبة، عبّر سلام عن رفضه القاطع لواقع السلاح الخارج عن شرعية الدولة، مُكرّساً رؤيته التي تقوم على أنّ أمن اللبنانيين لا يمكن أن يُبنى على موازين قوى حزبية أو فئوية، بل على مؤسسات شرعية خاضعة للمساءلة والمحاسبة. وقد شكّلت مواقفه الأخيرة التي أطلقها من منابر داخلية وخارجية إشارة واضحة إلى أن مرحلة “المهادنة الكلامية” مع حزب الله قد انتهت.
وفي جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، لم يتردد رئيس الحكومة في القول صراحة: “لا دولة تُبنى في ظل ازدواجية السلاح. لا إصلاح ممكناً في ظل السطوة. لا استقرار يتحقق حين يكون قرار الحرب والسلم خارج المؤسسات.” كلام بدا صادماً للبعض، ومحرّضاً للبعض الآخر، لكنه حصد احترام شريحة واسعة من اللبنانيين الذين ملّوا سياسة الترقيع والتسويات الهشة.
ما يميز نواف سلام، ليس فقط شجاعته في طرح المسائل الحساسة، بل تماسك منطقه السيادي والدستوري. فالرجل الذي مثّل لبنان في الأمم المتحدة، يعلم تماماً كيف يُقرأ المشهد اللبناني في عيون المجتمع الدولي، ويُدرك خطورة استنزاف الدولة من داخلها عبر تفريغها من أدواتها السيادية.
ومن هنا، فإن موقفه من “حزب الله” ليس استهدافاً لحزب لبناني بقدر ما هو إصرار على تصويب بوصلة الدولة نحو ما نص عليه الدستور، وما ورد في قرارات الشرعية الدولية، من القرار 1559 إلى 1701. فبقاء السلاح خارج الدولة هو بقاء الخلل البنيوي الذي يمنع قيام دولة المؤسسات.
يدرك سلام أن مواقفه قد تكلّفه الكثير في بيئة سياسية معقدة ومليئة بالألغام. لكنه، مما سبقه من أقرانه في رئاسة الحكومة، يتميّز بجرأة نادرة في مقاربة الملفات السيادية، ورفضه الصريح للالتفاف على الدستور أو التعايش مع السلاح غير الشرعي. فهو لا يسعى إلى حسابات شعبوية، ولا إلى “حجز مقعد” في نادي الزعامات التقليدية. بل يواصل بثبات مشروعه القائم على الشفافية، القانون، والالتزام الكامل بمنطق الدولة.
في بلد تتكاثر فيه الأزمات وتتآكل فيه الشرعيات، يبرز نواف سلام كرجل لا يتردّد في تسمية الأشياء بأسمائها. هو ليس خصماً سياسياً لأحد، لكنه خصم لكل ما يهدّد وجود الدولة وهيبتها. ومواقفه الأخيرة تجاه سلاح “حزب الله” ليست إلا ترجمة فعلية لإيمانه العميق بأن مستقبل لبنان مرهون بقيام دولة حقيقية… لا شبح دولة.
لبنان بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى رجال دولة لا يخشون الحقيقة، ولا يساومون على السيادة. ونواف سلام، على ما يبدو، اختار هذا الطريق… ولو كان وعراً